فصل: مناسبة الآيات لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}.
قوله تعالى: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} يجوزُ في {مَنْ} هذه أن تكونَ موصولةً، وأن تكونَ موصوفةً، واختاره الزمخشري قال: كأنه قيل: وحُرًَّا رَزَقْناه، ليطابِقَ عَبْدًا، ومحلُّها النصبُ عطفًا على {عبدًا}، وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد {ضَرَبَ}.
قوله: {سِرًّا وَجَهْرًا} يجوز أن يكونَ منصوبًا على المصدر، أي: إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر، ويجوز أن يكونَ حالًا.
قوله: {هَلْ يَسْتَوُونَ} إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه، وقيل: على الأغنياء والفقراء المدلولِ عليهما بهما أيضًا، وقيل: اعتبارًا بمعنى مَنْ فإنَّ معناها جمعٌ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها.
قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصارًا أو اقتصارًا.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ}.
والكَلُّ: الثقيل، والكَلُّ: العِيال، والجمع: كُلُول، والكَلُّ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، والكَلُّ أيضًا: اليتيم، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه. قال الشاعر:
أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه ** إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ

قوله: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ} شرطٌ وجزاؤه، وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن وثاب وعلقمةُ: {يُوَجِّهْ} بهاء ساكنة للجزم، وفي فاعلِه وجهان، أحدُهما: أنه ضميرُ الباري تعالى، ومفعولُه محذوفٌ، تقديرُه كقراءةِ العامة، والثاني: أنه ضميرُ الأبكم، ويكون {يُوَجِّه} لازمًا بمعنى تَوَجَّه، يقال: وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى.
وقرأ علقمةُ أيضًا وطلحةُ كذلك، إلا أنه بضم الهاء، وفيها أوجهُ، أحدها: أنَّ {أينما} ليست هنا شرطيةً و{يُوَجِّهُ} خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: أينما هو يُوَجِّهُ، أي: الله تعالى، والمفعولُ محذوفٌ أيضًا، وحُذِفَتْ الياء مِنْ {لاَ يَأْتِ} تخفيفًا، كما حُذِفَتْ في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} [هود: 106]، و{إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4]، ورُدَّ هذا بأن {أينما} إما شرط أو استفهام فقط، والاستفهام هنا غير لائق، والثاني أنَّ لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفًا لأجلِ التضعيفِ، وهذه الهاء هي هاء الضمير فلم يُحِلَّها جزم. ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي.
الثالث: أن {أينما} أُهْمِلَتْ حَمْلًا على {إذا} لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط، كما حُمِلَتْ {إذا} عليها في الجزم في نفسِ المواضع، وحُذِفت الياء مِنْ {يَأْتِ} تخفيفًا أو جزمًا على التوهم، ويكون {يُوَجِّهُ} لازمًا بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم.
وقرأ عبدُ الله أيضًا، وقال أبو حاتم: وقد حكى هذه القراءة هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ وكأنه لم يعرف توجيههَا.
وقرأ علقمةُ وطلحةُ: {يُوَجَّهْ} بهاء واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ، وهي واضحةٌ.
وقرأ ابن مسعود أيضًا: {تُوَجِّهْه} كالعامَّةِ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ.
وفي الكلام حَذْفٌ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} كأنه قيل: والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه، وهو خفيفٌ على مولاه، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ، ودَلَّ على ذلك قولُه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل}.
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ {أينما تَوَجَّهَ} فعلًا ماضيًا، فاعلُه ضميرُ الأبكم.
وقوله: {وَمَن يَأْمُرُ} الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعًا عطفًا على الضميرِ المرفوعِ في {يَسْتوي}، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير، والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ. {وَهُوَ على صِرَاطٍ} الجملةُ: إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا}.
شبَّهَ الكافرَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ولا مِلْكَ له في الشرع، والمؤمنَ المخلصَ بمَنْ رَزَقَه الخيراتِ ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثوابَ وحُسْنَ المآبِ على ما أنفقه.
ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس مَنْ كان بنفْسِه، ملاحظًا لأبناء جِنْسِه، متماديًا في حسبان مغاليطه كمَنْ كان مُدْرِكاَ بربِّه مصْطَلمًا عن شاهده، غائبًا عن غيره، والمُجرِي عليه ربُّه ولا حَوْلَ له إلا به.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}.
هذا المَثلُ أيضًا للمؤمن والكفار؛ فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجيء منه شيءٌ، ولا يحصل منه نفع، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حَوْلِه وقُوَّتِه، ولا يعْترف إلا بطوْلِه سبحانه ومِنَّتِه. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه فإن القياس نوعان قياس طرد يقتضي إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه وقياس عكس يقتضي نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء فكيف يجعلونها شركاء لي ويعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين هذا قول مجاهد وغيره وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقا حسنا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسبا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموجد كمن رزقه منه رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء فهذا ما نبه عليه المثل وأرشد إليه فذكره ابن عباس منبها على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله.
فصل:
وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ولا يقضي لك حاجة والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإن أمره بالعدل وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل بل أمره وشرعه عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهو المجاورون له عن يمينه على منابر من نور وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما كما في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك» فقضاؤه هو أمره الكوني {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلا يأمر إلا بحق وعدل وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي والقدر غير المقدر ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقوله: {وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله ناصيتي بيدك وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظير قوله: «عدل في قضاؤك» فالأول ملكه والثاني حمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي يقضى على العبد بما يكون ظالما له به ولا يأخذه بغير ذنبه ولا ينقصه من حسناته شيئا ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول:
إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: الحق وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وهذا اختلاف عبارة فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مراد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية وقد فرق شعيب بين قوله ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد وهو قول أئمة التفسير ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم

وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله وبالله التوفيق.
فصل:
وفي الآية قول ثان مثل الأية سواء أنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق. اهـ [أعلام الموقعين جـ 1 صـ 160- 16].
وقال في مفتاح دار السعادة:
فالمثل الأول للصنم وعابديه والمثل الثاني ضربه الله تعالى لنفسه وأنه يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فكيف يسوى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده هو غاية الحكمة والإحسان والعدل في اقدارهم واعطائهم ومنعهم وأمرهم ونهيهم فدعوى المدعى أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وامائه يفجر بعضهم ببعض ويسيء بعضهم بعضا اكذب دعوى وأبطلها والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره والتنبيه عليه والحمد لله الغني الحميد فغناه التام فارق وحمده وملكه وعزته وحكمته وعلمه وإحسانه وعدله ودينه وشرعه وحكمه وكرمه ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة والصفح عن المسيئين وتوبة التائبين وصبر الصابرين وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ويتطلبون مراضيه ويعبدونه وحده ويسيرون في عبيده بسيرة العدل والإحسان والنصائح ويجاهدون أعداءه فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته فيتميز الخبيث من الطيب ووليه من عدوه ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب والحمد لأوليائه والذم لأعدائه. اهـ.

.تفسير الآيات (77- 79):

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، والقاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله: {إن الله يعلم} قوله مصرحًا بتمام علمه وشمول قدرته: {ولله} أي هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده {غيب السماوات والأرض} كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظامًا لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما {وما أمر الساعة} وهي الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون استبعادًا لها واستصعابًا لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة {إلا كلمح البصر} أي كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان {أو هو أقرب} وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي- هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى: {إن الله} أي الملك الأعظم {على كل شيء} أي ممكن {قدير}.
ولما انقضى توبيخهم على إيمانهم بالباطل وكفرانهم بالحق وما استتبعه، وختم بأمر الساعة، عطف على قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} ما هو من أدلة الساعة وكمال القدرة والفعل بالاختيار من النشأة الأولى، فقال تعالى: {والله} أي الذي له العظمة كلها {أخرجكم} بعلمه وقدرته {من بطون أمهاتكم} والذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطن الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى، حال كونكم عند الإخراج {لا تعلمون شيئًا} من الأشياء قل أو جل، وعطف على {أخرجكم} قوله: {وجعل لكم} بذلك أيضًا {السمع والأبصار والأفئدة} آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسواها وعدلها وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يده، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطون إبداعًا قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى، ولعله جمعهما دون السمع، لأن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله؛ والأفئدة هي القلوب التي هيأها للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة القابلة للمعاني الدقيقة {لعلكم تشكرون} أي لتصيروا- بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات- في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة وحسن التعرف، فتعترفوا له بجميع ما أتتكم به رسله، وأهمه الذي تبنى عليه جميع مقاصد الأصول أو المنعم عليكم بهذه النعم إله واحد عالم بكل شيء قادر على كل شيء فاعل بالاختيار، وأن الطبائع من جملة مقدوراته، لا فعل لها إلا بتصريفه.
ولما كان المقصود من تعداد هذه النعم الإعلام بأنه الفاعل بالاختيار وحده لا الطبائع ولا غيرها، دلهم على ذلك مضمونًا إلى ما مضى بقوله مقررًا لهم: {ألم يروا} بالخطاب والغيبة- على اختلاف القراءتين لأن سياق الكلام وسباقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض فقط، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك {إلى الطير مسخرات} أي مذللات للطيران بما أقامهن الله فيه من المصالح والحكم بالطيران وغيره {في جو السماء} في الهواء بين الخافقين بما لا تقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعًا ما وصل بذلك من قوله: {ما يمسكهن} أي في الجو عن الوقوع.
ولما كان للسياق هنا مدخل عظيم في الرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة، ولهم وقع عظيم في قلوب الناس، عبر بالاسم الأعظم، إشارة إلى أنه لا يقوى على رد شبههم إلا من أحاط علمًا بمعاني الأسماء الحسنى، فكان متمكنًا من علم أصول الدين فقال: {إلا الله} أي الملك الأعظم، لأن نسبتكم وإياها إلى الطبيعة واحدة، فلو كان ذلك فعلها لا ستويتم؛ ثم نبههم على ما في ذلك من الحكم بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من إخراجكم على تلك الهيئة، والإنعام عليكم بما ليس لها، وتقديرها على ما لم تقدروا عليه مع نقصها عنكم {لآيات} ولما كان من لم ينتفع بالشيء كأنه لم يملكه، قال تعالى: {لقوم يؤمنون} أي هيأهم الفاعل المختار للإيمان. اهـ.